لقد جاءت الأحاديث الصحيحة المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) منذرة بافتراق الأمة إلى فِرَق كثيرة، وتشعّبها إلى طوائف مختلفة، كلها في النار إلا واحدة.
وقد وقع ما أخبر به الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله)، فافترقت هذه الأمة إلى فِرَق كثيرة يكفِّر بعضها بعضاً، ويستحل بعضها دم بعض.
وصارت كل فرقة تدَّعي أنها هي الفرقة المُحِقَّة، وأن أتْبَاعها هم الناجون دون غيرهم من طوائف الأمة، وغدت كل طائفة تنافح في إثبات ذلك بكل ما أُوتيت من جهد وقوة، فاختُلقَت الأحاديث الكثيرة التي تنتصر بها كل فرقة على غيرها من الفِرَق، وأُلِّفَت كثير من الكتب المملوءة بالأحاديث الموضوعة المكذوبة على النبي (صلى الله عليه وآله)، وصارت كل فرقة تحتج على غيرها بأقوال تنسبها للنبي (صلى الله عليه وآله)، فزادت الفتنة، وعظمت المحنة، وخفي الحق، وانتشر الباطل، وصار الناس في ظلمة عمياء، إذا أخرج المرء فيها يده لم يكد يراها.
إلا أن الحق لا تختفي أنواره، ولا تندثر آثاره، فأعلامه لائحه، ودلائله واضحة، فإن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة تصدح بالحق وتصدع بالهدى، إلا أن مبتغي الحق يلزمه ألا يتعصّب للمخلوقين، وأن يجانب هواه، وأن يفر من عبادة السادة والكبراء، وينأى عن تقليد الأجداد والآباء.
فإنه إن تجرّد من كل ذلك، وتمسَّك بآيات الكتب العزيز وبالآثار الصحيحة المروية عن سيد الأنام رسول الله (صلى الله عليه وآله) أدرك الحق ووصل إليه، ونال مبتغاه، وحصل على ما يتمنَّاه، فإن الوصول إلى الحق هو غاية الغايات ومنتهى الطلبات، وهو منية كل طالب، ورغبة كل راغب.
فاللازم إذن هو معرفة الفرقة الناجية والطائفة المحِقَّة من كل تلك الطوائف، فما هي هذه الفرقة؟
إن المباحث الآتية ستتكفّل ببيان جواب هذا السؤال، ونحن قد مهَّدنا لمعرفة الفرقة الناجية بالأبحاث المتقدمة، وسنحيل القارئ الكريم إلى ما سبق بيانه فيما مرَّ كلما دعت الحاجة إلى ذلك، فبه سبحانه نستعين فنقول:
أحاديث اختلاف الأمة
أحاديث افتراق الأمة وردت في كتب الحديث بطرق كثيرة، رواها جمع كبير من أعلام أهل السنة في كتبهم: كالترمذي وأبي داود وابن ماجة وأحمد والحاكم والهيثمي وابن حجر والذهبي والسيوطي وغيرهم.
وصحّحها كثير من حفاظ الحديث عند أهل السنة كما سنبيّنه قريباً إن شاء الله تعالى.
ورواها عن النبي (صلى الله عليه وآله) طائفة من الصحابة: كأمير المؤمنين (عليه السلام)، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، ومعاوية، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم.
وجاءت بألفاظ مختلفة، إلا أنها كلها تؤدي معنى واحداً، وإليك بعضاً منها:
بعض ألفاظ الحديث:
1ـ أخرج الترمذي ـ واللفظ له ـ وأبو داود وابن ماجة والحاكم وأحمد بن حنبل والدارمي وابن حبان وابن أبي عاصم والسيوطي وغيرهم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): تفرّقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة(1).
2ـ وأخرج الترمذي والحاكم وغيرهما عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم مَن أتى أُمَّه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرَّقت على اثنتين وسبعين ملّة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملّة، كلهم في النار إلا ملّة واحدة. قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي(2).
وعند الحاكم: قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي.
3ـ وأخرج أبو داود وابن ماجة وأحمد والهيثمي وابن أبي عاصم والسيوطي وابن حجر والتبريزي والألباني وغيرهم عن معاوية وغيره، قال: ألا إن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قام فينا فقال: ألا إن مَن قبلكم مِن أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملّة، وإن هذه الملّة ستفترق على ثلاث وسبعين: اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة(3).
إلى غير ذلك من الأحاديث المتقاربة في اللفظ والمعنى مع ما ذكرناه.
كل حزب بما لديهم فرحون
لقد ادَّعت كل طائفة أنها هي الفرقة الناجية دون غيرها، فكثر الأخذ والرد بين علماء الطوائف، وساقت كل طائفة ما عندها من الأدلة.
ومن المعلوم أنه لا يمكن قبول كلام كل الطوائف في هذه المسألة، لأنه يستلزم تكذيب الأحاديث الصحيحة السابقة التي نصَّت على أن الناجية هي واحدة من كل الفِرق، ثم إن اعتقاد ذلك يؤدي إلى الوقوع في اعتقاد المتناقضات، فنعتقد أن أهل السنة هم الناجون دون غيرهم، والمعتزلة والخوارج والشيعة وغيرهم كذلك، وهذا واضح الفساد.
وعليه، فلا بد من النظر في الأدلة وتمحيصها، والأخذ بالحُجج القطعية، وطرح الادعاءات الواهية التي لا تستند إلى شيء، فإنها لا قيمة لها ولا فائدة فيها.
ولنضرب أنموذجين لبعض استدلالات أهل السنة على أنهم هم الفرقة الناجية، ليرى القارئ العزيز كيف تمسّك بعضهم بما لا ينفع، وتشبّث بما لا يفيد:
الأول: ما ذكره الإيجي في المواقف، حيث قال: وأما الفرقة المستثناة الذين قال فيهم: (هم الذين على ما أنا عليه وأصحابي)، فهم الأشاعرة والسلف من المحدّثين وأهل السنة والجماعة، ومذهبهم خال من بِدَع هؤلاء...ثم ساق عقائد أهل السنة(4).
وهذا الدليل كما ترى ركيك ضعيف، فإن كل الفِرَق تدّعي أنها على ما كان عليه النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه، وأن مذاهبهم خالية من البِدَع.
ثم إن الأشاعرة وأهل السنة وأهل الحديث الذين ذكر أنهم هم الناجون هم أكثر من فرقة(5).
والعجيب أن الإيجي نفسه ذكر الأشعرية من ضمن الفِرَق الضالة قبل هذا الكلام بصفحة، فإنه قال أولاً: اعلم أن كبار الفِرَق الإسلامية ثمانية: المعتزلة، والشيعة، والخوارج، والمرجئة، والنجارية، والجبرية، والمشبِّهة، والناجية(6).
ثم قال: الفرقة السادسة: الجبرية، والجبر إسناد فعل العبد إلى الله، والجبرية متوسّطة تثبت للعبد كسباً كالأشعرية، وخالصة لا تثبته كالجهمية...(7).
ثم قال: فهذه هي الفرق الضالّة الذين قال فيهم رسول الله: كلّهم في النار.
فكيف عدَّ الأشاعرة بعد ذلك من الفرقة الناجية؟
ثم إن ما ساقه الإيجي من عقائد أهل السُّنّة فيه من الباطل ما فيه، ومنه قوله: إن الله تعالى يراه المؤمنون يوم القيامة. مع أن ذلك خلاف نص الكتاب العزيز في قوله سبحانه (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)[سورة الأنعام: الآية 103]، ولسنا هنا بصدد بيانه.
ومنه قوله: لا غرض لفعله سبحانه.
وهو خلاف قوله تعالى (أَفَحَسِبْتم أَنَّما خَلَقْنَاكُم عَبَثًا)[سورة المؤمنون: الآية 115]، وقوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، وقوله (الذي خَلَقَ المَوْتَ والحياة لِيَبْلُوَكُم أَيُّكُم أَحْسَن عَمَلاً وهو العزيز الغفور)[سورة الملك: الآية 2]، وغير هذه الآيات في كتاب الله كثير.
وقوله: إن الإمام الحق بعد رسول الله أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، والأفضلية بهذا الترتيب.
إلى غير ذلك من مواقع الخلل في كلامه، فكيف يكون أهل السنة هم الفرقة الناجية بهذه الأدلة الواهية؟
الثاني: ما ذكره المناوي في فيض القدير، فإنه قال بعد أن ذكر أن الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة:
فإن قيل: ما وثوقك بأن تلك الفرقة الناجية هي أهل السنة والجماعة، مع أن كل واحدة من الفرق تزعم أنها هي دون غيرها؟
قلنا: ليس ذلك بالادّعاء والتشبث باستعمال الوهم القاصر والقول الزاعم، بل بالنقل عن جهابذة هذه الصنعة وأئمة أهل الحديث، الذين جمعوا صحاح الأحاديث في أمر المصطفى (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وأحواله وأفعاله وحركاته وسكناته، وأحوال الصحب والتابعين، كالشيخين وغيرهما من الثقات، الذين اتفق أهل المشرق والمغرب على صحة ما في كتبهم، وتكفّل باستنباط معانيها وكشف مشكلاتها كالخطابي والبغوي والنووي جزاهم الله خيراً، ثم بعد النقل يُنظَر من تمسّك بهديهم، واقتفى أثرهم، واهتدى بسيرتهم في الأصول والفروع، فيُحكم بأنهم هم(
.
وأقول: هذا الدليل في ركاكته كسابقه، فإن كل الفِرَق تزعم أنها جمعت الآثار الصحيحة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأحواله وأفعاله وحركاته وسكناته بالنقل الصحيح عن جهابذة الحديث وأئمة الدين... إلى آخره.
وكل الفِرَق تدّعي أنها تقتفي آثار الرسول (صلى الله عليه وآله) وتتمسّك بأحكامه المنقولة عنه بالنقل الثابت الصحيح. إلا أن هذه كلها دعاوى فارغة لا قيمة لها كما قلنا.
وقوله: (بالنقل عن جهابذة هذه الصنعة... كالشيخين وغيرهما من الثقات الذي اتفق أهل المشرق والمغرب على صحة ما في كتبهم) ادّعاء فاسد، فإن الشيعة مثلاً لا يصحِّحون أسانيد أكثر تلك الأحاديث ولا يعتدّون بها، وإجماع أهل السنة على صحة تلك الأحاديث التي جمعها حفّاظ الأحاديث عندهم لا يعني إجماع كل الأمة على ذلك فضلاً عن إجماع أهل المشرق والمغرب.
وقوله: (ثم بعد النقل يُنظَر من تمسّك بهديهم(9)، واقتفى أثرهم، واهتدى بسيرتهم في الأصول والفروع، فيُحكم بأنهم هم) لم يبيِّن فيه أن أهل السنة هم الذين تمسّكوا بهدي الصحابة والتابعين، بل علّق الحكم بالنجاة على النظر.
ومجموع كلامه لا يدل على أكثر من أن أهل السنة جمعوا الأحاديث الصحيحة فقط، أما أنهم عملوا بها أم لا، فهذا لم يثبته كما هو واضح.
ثم إن المطلوب هو التمسك بهدي النبي (صلى الله عليه وآله) واتباع مَن أمر النبي (صلى الله عليه وآله) باتباعه، لا اتِّباع مَن رأى الناس لأنفسهم اتباعه.
هذان أنموذجان من استدلالاتهم على نجاتهم، وهما كغيرهما من أدلتهم دعاوى مجرّدة، وأدلّة ملفّقة، لا تستند إلى حجّة صحيحة ولا إلى برهان مستقيم. وهذا واضح جلي عند كل من تتبع كلماتهم ونظر في كتبهم.