من يشتري لسان طاعن في العلماء ليقطعه؟!!
--------------------------------------------------------------------------------
من يشتري لسان طاعن؟
متعب بن فرحان القحطاني
إنها سطورُ مكاشفةٍ ومصارحة.
إنها عملية ترميمٍ لما تصدّع من بنيان التربية.
إن شئتَ قُلْ إنها همساتٌ أخويّة تداوي قلوباً مريضة.
وإن شئتَ فقُلْ إنها كلماتٌ جريئة في فضح الأدعياء.
كتبتها حين سمعت أصواتاً نشازاً تؤذي مسامع الدعاة العاملين المرهفة.
تقيّد إقدامهم بهمزٍ ولمزٍ فاضح، وتطعن همَّتَهم بخنجرٍ مسمومٍ من القول الجارح.
تلك الأصوات لم تكن لعدوٍ ظاهر أو منافقٍ معلومِ النفاق.
بل لأقوامٍ يزاحمون أهل الصلاح والالتزام بمناكبهم، ويقفون معهم لخدمة دين الله في خندقٍ واحد.
ولكنهم بغوا على إخوانهم، وأصابوهم بطائش سهامهم.
ادّعَوا أن الصوابَ رداؤهم والحقَ تحت عمائمهم، فحجّروا واسعاً.
تقرّبوا إلى الله ـ جهلاً ـ بإيذاء إخوانٍ لهم، يظنون أن ذلك يقرّبهم إلى الله زُلفى؛ وما بلغهم قول الهادي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يقبل اللهُ إلا الطيّب» (1).
* مَن يشتري لسانَ طاعنٍ أو يشدّه بنِسْعَةٍ(2)؟!
«كانت العرب في جاهليتها تعاقب الشاعر الهجّاء بشدِّ لسانه بنِسعةٍ، أو تشتري منه لسانه بمعروفٍ يصنعونه له فيمسكه عنهم، فكأنما ربطوا لسانه».
ولما جاءت رسالة الإسلام أقرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه العادة حين أمر في غزوة حنينٍ يوم توزيع الغنائم، فقال: «اقطعوا عني لسانه» أي أسكِتوه بالعطاء.
وأمضى الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ هذه السُّنة في الحُطيئة(3) لما أكثر من هجاء الزبرقان بن بدر التميمي ـ رضي الله عنه ـ وقال فيه ذمّاً مقذعاً، ظنَّه عمرُ مدحاً حتى سأل حسان بن ثابت عنه أهو هجاء؟ فقال: يا أمير المؤمنين! ما هجاه، ولكن سلح عليه بقوله:
دعِ المكـارمَ لا ترحلْ لبغيتها *** واقعدْ فإنكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي(4)
فسجنه عمرُ في المدينة، فاستعطفه الحطيئة بأبياته المشهورة:
ماذا تقولُ لأفـْراخٍ بذي مرخٍ *** زُغْبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاسبَهم في قَعرِ مُظلمة *** فاغفرْ عليك سَـلامُ الله يا عمرُ (5)
فأخرجه ونهاه عن هجاء الناس، فقال الحطيئة: إذاً تموت عيالي جوعاً؛ فاشترى عمر ـ رضي الله عنه ـ منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم»(6) وأخذ منه العهد على ذلك، ولكنه نكث وأوغل في الهجاء بعد موت الفاروق.
فيا ليت شعري مَن يشتري أعراضَ العلماء والدعاة اليوم من هجَّاءٍ قد تخلف «في كهوف القَعَدَة الذين صرفوا وجوههم عن آلام أمتهم، وقالوا: هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب» و «كلما مرَّ على ملأ من الدعاة اختار منهم ذبيحاً فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المُرّة، تمرق من فمه مروق السهم من الرَّميّة، ثم يرميه في الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق؛ فإن ذلك من شُعَب الإيمان»(7).
* بين ستر العُصاة.. وفَضح الدّعاة:
إنَّ القلب ليحزن، وإن النفس لتضيق من التزامٍ صوريٍّ يعيشُ صاحبُه ضمن دائرةٍ ضيقة من معاني الإسلام الظاهرة، فيدور في فلكها دون أن يخالط الإيمانُ شغافَ قلبه لينعكس خُلقاً كريماً وسلوكاً رفيعاً.. وإلى مثل هؤلاء وجَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطابه فقال: «يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عوراتِهم»(
.
وإنك لتعجب من أبي بكرٍ الصّديق حين يقول فيما أخـرجه عبد الرزاق في مصنفه: «لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلا ثوبي لأحببت أن أستره عليه»، ولعلَّ ابن هبيرة قد فقِهَ قول الصِّديق فأسرَّها إليك أن «اجتهد أن تستر العصاة؛ فإن ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأوْلى الأمور ستر العيوب»(9).
إن قلباً كبيراً رحيماً كقلب الصدّيق - رضي الله عنه - قد وسع العصاة المجرمين ليسترهم، وأولئك ضاقت نفوسهم عن نجاحات إخوانهم؛ فأبت إلا أن تتتبَّعَ عوراتهم لتفضحهم؛ فيا لله العجب!
وكان سفيان بن الحصين جالساً عند إياس بن معاوية، فمرّ رجلٌ فنال منه سفيان، فقال إياس: اسكت! هل غزوتَ الروم؟ فرد سفيان أن لا، فسأله إياس ثانية: أغزوتَ الترك؟ فقال سفيان: لا؛ فعلَّمه إياسٌ درساً لم ينسه سفيان أبداً، حين صاح فيه: سلم منك الروم، وسَلِم منك الترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم؟!(10).
وهذا الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ـ حفظه الله ـ يعرّي دعاوى زائفة طالما تشدق بها أشباه المتدينين لاستباحة أعراض إخوانهم الدعاة والعاملين في قوله: «إنه ما زال المسلمون إلى يومنا هذا يطلع عليهم بين الحين والآخر مَن يزعم نصرَ الدِّين وقول كلمة الحق، فيترك أهل الأوثان والشرك والإباحية والكفر، ويُعمِل قلمه ولسانه في المسلمين، بل وجدنا منهم مَن لا همَّ له إلا مـشاغلة الدعاة إلى الله والتعرض لهم بالـسبِّ والتشـهير... ولمثل هذه الأمور - التي يرونها مخالفاتٍ وما هي بمخالفات ـ يستحلّون أعراضـهم، وينتـهكون حرمـاتهم، ويفتّشـون على أسرارهـم، ولا يجدون لهم ديناً في الأرض إلا تفريق جماعتهم، وتمزيق وحدتهم وملء صدور الناس بكراهيتهم ومحاولة فضِّ الناس عنهم»(11).